شبابنا والثقافة الحديثة : البذرة

شبابنا والثقافة الحديثة : البذرة (*) د. رضا العطار

(فلتكن تلك البذرة الحسنة او القدوة الفاضلة للجيل القادم)

عند الالمان امثولة تقصها الأم على ابنها، او يرويها الكبير للصغير، كي يكون غرسا صالحا، يوجه قوى الناس الى البر والاحسان، يسمعها الصبي فتنطبع في ذهنه، وقد تختلط بدمه، وتتأصل عناصره، فإذا شب عمل بها واتجه نحو الغاية المقصودة منها، والمثل الشائع بين الامة كمثل الامثولة التي تقص على الصغار للعظة والعبرة، كلاهما يدل على عقلية هذه الامة وما تتشوق اليه، فطبائع الامم واخلاقها من امثالها.

يقول الالمان في امثولتهم :

ان سائحين كانا قد نزلا في قرية، فبينما هما قاعدان في خان واذا بنار قد شبت في القرية، فقال احدهما : ليس هذا شأني، ولكن الاخر نهض وعدا نحو النار فأنقذ بعض الناس، وكثيرا من الاثاث، فلما عاد الى رفيقه سأله هذا : ومن امرك بان تخاطر بنفسك لصالح غيرك ؟ فقال الرجل الشهم : ان الذي امرني بهذا، هو الذي امرني بان ادفن البذرة كي تنبت وتكثر، فقال الاخر : ولكن لو كنت انت قد دفنت في هذه النار ؟ فأجابه الثاني : اذن كنت اكون هذه البذرة.

فهذه امثولة جميلة لو ان احد شعرائنا وضعها في مقطوعة يحفظها الصغار لكانت من خير المحفوظات، التي تقوًم الاخلاق. وتغرس في نفس الناشئ روح العطاء والتضحية، وفيها روح الايثار وبذل النفس، لمصلحة الاخرين، ثم فيها هذا المعنى الخطير وهو ان كل كلمة نتفوه بها او عمل نعمله هو بمثابة البذرة التي تنبت وتثمر الاف البذور.

وهذا يبعثنا الى ان نحاسب انفسنا، فلا نزرع من البذور إلا اصلحها، فكلمة السباب التي ننطق بها، هي بذرة سوء، ستنبت كالشوك بين الجيل الجديد الذي ينشأ على تعلمها والتلفظ بها، وخواطر الحقد والحسد والجبن والاثرة التي نتفوه بها او نكتبها ستجد صدى في نفوس الذين يسمعونها او يقرؤنها، فينشؤون عليها نشأة سيئة.

فكل منا زارع، فما من عمل نأتيه او كلمة نتفوه بها إلا وهي بمثابة البذرة ، تنمو وتثمر الثمرة الصالحة او السيئة، وذلك لاننا نعيش بين الناس، فهم قدوة لنا ونحن قدوة لهم، وهم يتأثرون باعمالنا واقوالنا كما نتأثر نحن بهم، واكبر عامل في الاخلاق بل يكاد ان يكون العامل الوحيد فيها هو القدوة، فنحن ننشأ على غرار من حولنا من الناس الذين نعاشرهم، ومرجع هذه القوة التي نراها في القدوة هو ما فُطرنا عليه من المحاكات لغيرنا، فإذا كان هؤلاء البذرة الصالحة في القول والعمل نشأنا مثلهم، واذا كانوا عكس ذلك ينطقون بهجر القول ولا يستحون من فساد اعمالهم، فاننا نقتدي بهم ونسير سيرة السوء.

ويجب لهذا السبب ان تكون فينا روح ذلك الالماني الذي يرمي بنفسه في النار كي ينقذ الاخرين من بني جنسه. ومثلما يحيل الاشرار الوسط السيئ الذي يضم اللص والسكير والعاعر الى ابطال، علينا ان نجعل من الوسط الحسن الذي يضم الاطهار الذين يسعون الى خدمة البشرية ، ابطال الشجاعة و الشهامة.

* مقتبس من كتاب في الحياة والادب للموسوعي سلامة موسى.